منذ عدة سنوات أصبحت باكستان، وهي دولة جبلية يبلغ عدد سكانها 162 مليون نسمة وتمتلك قوة نووية صغيرة وفعالة، تبدو وكأنها على وشك الوصول إلى نقطة الغليان والانفجار. يرجع ذلك لعدة أسباب منها أن نظامها السياسي يفتقر إلى الاستقرار، ورئيسها له خصومه الكثر وعلى خلاف حاد مع المحكمة العليا، كما أن المقاطعات الحدودية الشمالية الغربية للبلاد تعاني من الفوضى وانعدام القانون حالياً، مثلما كان الحال عليه حين كان والدي الجندي يعمل هناك قبل استقلال باكستان عن الهند عام 1947. ويبدو أن وكالات الاستخبارات العالمية متيقنة اليوم من أن أسامة بن لادن يختبئ داخل المنطقة القبلية في باكستان، وأنه ربما يقوم أحياناً بزيارة أفغانستان انطلاقاً من تلك المناطق. لكن الأجهزة المذكورة تبدو أقل يقيناً بشأن مدى سيطرته المباشرة على عمليات "القاعدة" والجماعات العديدة المنبثقة منها. في العشرين من سبتمبر أصدر ابن لادن، أو على الأقل فريقه، شريطاً مصوراً دعا فيه المسلمين الباكستانيين إلى الثورة على الجنرال برويز مشرف انتقاماً لمقتل رجل الدين المتشدد "عبد الرشيد غازي" الذي عُثر على جثته في قبو المسجد الأحمر في إسلام أباد بعد نجاح القوات الباكستانية الخاصة في اقتحامه يوم العاشر من يوليو الماضي. وتعتبر هذه هي المرة الأولى التي يوجه فيها ابن لادن تهديداً لمشرف بالاسم. ورغم أنه يستحيل التنبؤ الآن بمدى التأثير الذي يمكن أن يحدثه هذا التهديد، فإن الأمر المؤكد هو أن توقيته كان ملائماً تماماً بالنسبة لمعارضي مشرف، حيث جاء الخطاب في وقت تشهد فيه باكستان عاصفة سياسية عاتية لم تواجهها خلال سنوات عديدة. والتاريخ الحديث للمسجد الأحمر الذي يعد ثاني أكبر مسجد في العاصمة الباكستانية، يلقي الضوء على مشكلات باكستان الحالية، خصوصاً إذا ما عرفنا أن حاكماً عسكرياً سابقا لباكستان هو الجنرال ضياء الحق كان هو من وافق على توسعة هذا المسجد لتجنيد الشباب المسلم للجهاد ضد الاحتلال السوفييتي في أفغانستان. وقد أدى ذلك فيما بعد إلى جعل المسجد والمدارس الدينية التابعة له مركزاً للعناصر الجهادية وخصوصاً "القاعدة". وبعد الهجمات التي وقعت على الولايات المتحدة الأميركية في الحادي عشر من سبتمبر، انضم الجنرال مشرف إلى بعض الحكومات الغربية والعربية في الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ضد الإرهاب. وكان من المحتم أن يؤدي ذلك إلى وقوع صدام مباشر بين المقاتلين الإسلاميين وبين الرئيس، كما أدت العمليات العسكرية التي قام بها الجيش الباكستاني في المحافظة الحدودية الشمالية الغربية ضد حركة "طالبان"، إلى صدور مطالبات من قبل بعضهم باغتيال الرئيس مشرف، كما صدرت فتاوى من رجال دين مسلمين تحظر إقامة شعائر الجنازة وفقا للأصول الشرعية الإسلامية لأكثر من ألف جندي باكستاني الذين قضوا أثناء تنفيذ تلك الحملات. ويجد الرئيس مشرف نفسه في الوقت الحالي واقعاً في مرمى نيران قوتين ذاتي نفوذ؛ هما المتطرفون الإسلاميون الذين يطالبونه بتطبيق الشريعة في كافة أرجاء باكستان، وأغلبية الشعب الباكستاني ومعها الحكومات الغربية التي تطالبه باتخاذ إجراءات صارمة ضد المقاتلين الإسلاميين. ومما يستحق الملاحظة هنا أن 7 في المئة من مجموع الناخبين هم فقط الذين يدعمون الأحزاب الدينية، وأنه يوجد الآن في باكستان احترام حقيقي لحكم القانون. في بعض أجزاء البلاد يسيطر المقاتلون التابعون للقبائل والعصابات الإجرامية على الوضع، وهو ما اضطر الحكومة إلى توقيع عدد من اتفاقيات السلام مع القبائل خلال عامي 2005 و2006، لكنها سرعان ما انهارت. وقد ساعدت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا في إقناع مشرف بنشر 90 ألف جندي، والبدء في بناء سور على امتداد الحدود المضطربة مع أفغانستان. وقد تبين من خلال استطلاع للرأي، لافت للانتباه ومثير للقلق أجري في باكستان مؤخراً، أن شعبية ابن لادن تفوق شعبية الرئيس مشرف داخل باكستان، وهو ما يرجع إلى أن كثيراً من الباكستانيين يكرهون رئيسهم كراهية عميقة بسبب قربه الشديد من الرئيس الأميركي جورج بوش و"المحافظين الجدد" في واشنطن. في الثامن عشر من سبتمبر الحالي أعلن الرئيس مشرف أنه سيستقيل من منصبه كرئيس لهيئة أركان الجيش الباكستاني في الخامس عشر من نوفمبر القادم، وهو ما يعني إنهاء الحكم العسكري الذي استمر في باكستان خلال الأعوام الثمانية الأخيرة. ويذكر هنا أن الجنرال مشرف كان قد أعلن نيته التخلي عن منصبه العسكري بنهاية عام 2004 لكنه لم يفعل... وهو ما يرجع إلى أن الجنرال يرى أن الجيش يوفر له دعماً في غاية الأهمية، خصوصاً في الوقت الحالي حيث يتداعى وضعه السياسي. ويبدو اعتزاز الرئيس بزيه العسكري من التصريح الذي كان قد أدلى به في وقت سابق من هذا العام وقال فيه إن "زيه العسكري قد أصبح جزءاً من جلده". وهو يريد أن تتم إعادة انتخابه كرئيس لباكستان في السادس من أكتوبر القادم قبل أن تتم الدعوة للانتخابات البرلمانية المقرر لها أن تجري في منتصف عام 2008. ويذكر أيضاً في هذا السياق أن "شريف بيرزادا"، كبير محامي مشرف، كان قد قال أمام المحكمة العليا في معرض توضيح رغبة رئيسه: "إذا ما تم انتخاب الجنرال مشرف كرئيس لفترة ثانية، فإنه سوف يتخلى عن مهمته كرئيس لهيئة أركان حرب الجيش بعد الانتخابات، وقبل أن يحلف اليمين القانونية لتولي منصب الرئاسة". وتخطط بنظير بوتو رئيسة الوزراء السابقة ورئيسة "حزب الشعب الباكستاني" للعودة إلى بلادها من لندن في الثامن عشر من أكتوبر المقبل. وكان رئيس الوزراء السابق نواز شريف قد عاد في العاشر من سبتمبر إلى إسلام أباد، لكنه ووجه بتهم فساد جديدة وتم إبعاده في اليوم نفسه إلى المملكة العربية السعودية. إن الفترة الحالية التي تمر بها باكستان تتسم بعدم اليقين لحد كبير وهو ما يجعل الجنرال مشرف بحاجة إلى حشد كافة طاقاته وسلطاته من أجل مواجهة هؤلاء الذين يتحدون حكمه من خلال الإرهاب المحلي، وعنف الشوارع.